Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
Publicité
Archives
Derniers commentaires
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
17 février 2010

التطبيق التفاعلي للإسلام وتوحيد الوجود العربي


التطبيق التفاعلي للإسلام وتوحيد الوجود العربي

أمِيل إلى الاعتقاد أنّ الوجود الإنساني مجموعة لامتناهية من الوحدات القائمة بذاتها. كما أرجّح أن يكون نجاح الفرد والمجموعة رهين التوفيق في توحيد تلك الوحدات في صلب نظام عام للوجود. ولا يسعني إلاّ أن أفترض أنّ قاعدة التوحيد تلك تُسحب على غير المسلم وعلى المسلم على حد سواء. لكني أميل إلى الظن أنّ المسلم المعاصر هو آخر من استفاد من هذه القاعدة أو من هذا القانون الأساسي في الإنسان وفي الطبيعة وفي الكون. كيف ولماذا وما هي سبل الاستفادة من قاعدة التوحيد مستقبلا، ذلك ما سأحاول بيانه.

إنّ نجاحات وإنجازات الحضارة الكونية في نسختها الغربية (والآسيوية) الحالية حجّة على غايات تمّ بلوغها وعلى أهداف تمّ تحقيقها في السياسة وفي الاقتصاد وفي المجتمع بأوجه نشاطه المختلفة. ولا يمكن أن تتحقق غايات وأهداف من دون سابق تصميم يكون متّسما، بالأساس، بقدر مُهمّ من التوازن وبقدر مُهمّ من التوحيد. يكون التوازن قائما بين عناصر المشروع المُصمَّم. ويكون التوحيد في مسار التوجه نحو الغاية والأهداف.

فالتصاميم والمخططات والبرامج عبارة على وحدات من التنظيم في كافة مجالات الوجود، العضوية منها والطبيعية والتربوية والترفيهية و الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وهي وحدات من الإنتاج  الناجم عن جهد مبذول. لذا فإنّ نجاح الوَحدة الواحدة، فضلا عن معاينته بواسطة معيار التوازن وكذلك بواسطة معيار التوحيد في السير نحو الغاية ، فهو متّصل بحُسن استعمال الجهد في سبيل الإنتاج، أكثر منه اتصاله بعقيدة أو بدين. وهذا هو التوحيد العقلي والعلمي والجبلّي و العلماني. وهو توحيد يتحقق بكشف نواميس الخَلق، وهو في متناول الملحد والمؤمن، المسيحي والبوذي واليهودي والمسلم والناس كافة. وهو التوحيد الذي انتهجَته البلدان المتقدمة، غير المسلمة، والذي اقتدت به أمم أخرى مثل اليابان وكوريا والصين وغيرها.

والوَحدة الوجودية، بإيجاز وتلخيص، عبارة على نظام يُعتبر ناجحا أو صحّيا باعتبار تماسكه حول تصميم ناجع، وحول غاية وأهداف، وحول مُحرّك للجهد.

لو تمعّنتَ في مباراة لكرة القدم لتأكدتَ أنها من أجمل الأمثلة على الوحدة في التحرّك في نطاق وَحدة متكاملة (المباراة) و طبقا لتصميم معيّن (تكتيك المدرّب) وفي سبيل تحقيق هدفٍ (تسجيل الهدف)، وبفضل محرّكٍ (الرغبة في البذل والعطاء) مسخّر من أجل غايةٍ (الفوز). كما ستلاحظ أنه لمّا تكون المباراة خالية من الأهداف (أهداف الكرة) يُجمِع الأخصائيون والمتفرجون أنها "ليست فُرجوية" أي أنها لم تُلبِّ شروط الوَحدة والتوحّد والتوحيد.

والذي انطبق على لعبة الكرة ينطبق أيضا على أية لعبة أخرى وأيضا على أي نشاط فني وأدبي وعلمي، بل وعلى أي نظام بيولوجي أو طبيعي، حسب اعتقادي. فالأغنية وَحدة والرقصة وَحدة والشريط السينمائي وَحدة والمسرحية وَحدة والقصة وَحدة والقصيدة وَحدة، كما أنّ العملية الجراحية وَحدة وإطلاق المكوك الفضائي وَحدة. وما من شك أنّ الجماع وَحدة وعلاقة الحبّ وَحدة والزواج وَحدة.

وأشك في أن يكون التدريب على هذا النوع من التوحيد الفكري و العملي والميداني (النابع من التوحيد العقلي والعلمي والعلماني)، أو على الأقل التدرّب على فهم آلياته، منافيا للتوحيد الديني. حتّى وإن وقع صدام بينهما، فلا أظنّ أنّ مغبّة الصدام بين التوحيد العقلي والتوحيد الديني حجة على تحريم الرقص أو الغناء أو الشعر أو التمثيل. سيكون من الأجدر التسليم بوجود وَحدة سيئة (رقصة مشاكسة أو لا أخلاقية) مقابل وَحدة جيّدة (رقصة)؛ أو وَحدة سيئة (جماع قبل الزواج) ووَحدة جماع جيّدة (بعنوان الزواج) وهكذا دَواليك. إجمالا، مَن لا يفهم آليات هذا الصنف من التوحيد، سيصعب عليه فهم آليات التوحيد بالله عزّ وجل خالقا، وبالتالي آليات استثمار آثار عقيدة التوحيد في مجالات الوجود الإنساني. وذلك ما سنرى لاحقا.

فلا بأس إذن أن نقف وقفة تأمّل في وضعنا الحضاري الراهن كمسلمين، وندرسه من منظور مقاييس التوحيد العقلي والعلمي والعلماني، لنرى إلى أيّ مدى نحن موحّدون. والقياس على سلّم هذا التوحيد المجرّد من الدين كافٍ لنحدّد الحال الذي نحن عليه من التوحيد الديني. فالذي يؤمن بالعلم فقط، مرشّح لإقامة وجهه للدين حنيفا لأنّ الإسلام دين علم. أمّا الذي يؤمن بالدين ولا ينجح في المسْك بناصية العلم يُلام على تخاذله في الدين وفي العلم معًا.

كيف يكون حال وَحدة الوجود لدى المسلمين؟ ذاك سؤال نجد نصف الإجابة عنه في معاينة الانقسام في الضمير بين إسلامي وعلماني. إذ أنّ كلّ انقسام خروج عن نهج الحكمة والوِحدة والتوحيد. وذلك بالرغم من الخير الذي ستولّده المنظومتان – الإسلامية والعلمانية- لو اهتدى المسلمون عموما إلى الانحياز إلى البراءة الإيديولوجية إزاءهما. وسوف أعود إلى التعليل لكن ليس قبل أن نتأمّل في الوحدة الكبرى ونتلمّس إلى أيّ مدى هي مُوحّدة أو غير موحّدة .

إنّ وَحدة الوجود، الشاملة لكافة الوَحدات، هي مسألة النهوض الحضاري للعرب والمسلمين. وقلبُها النابض هو لا شيء غير القضية الفلسطينية. لكنّ مركزية القضية، كمُحرّك لمنظومةٍ للنهوض، ليس في وضع اشتغال. وإلاّ فهل هنالك تفسير منطقي آخر لبقاء الأرض السليبة رازحة تحت نير الاستعمار لأكثر من نصف قرن؟ كما أنّ غياب التصميم والتخطيط لوحدة عربية مستديمة يترجم اختلال التوازن في الوجود العربي ككلّ. بل يُؤكد أنّه كلّما غضّ العرب البصر عن الحاجة إلى التخطيط، تفاقمت الأزمة، ومالَت الكفة إلى حدّ انهيار الجسم الوحدوي؛ وإضافةُ قضية العراق إلى سلسلة الانتهاكات الذاتية لحُرمة الضمير العربي ولمناعة وجوده أقوى دليل على ذلك. ثمّ ما هي الغاية من تربيةٍ عربية ومن علمٍ عربي ومن معرفةٍ عربية إن لم تكن، تلك الروافد وغيرها، موظَّفة من أجل تحقيق أهداف الاكتفاء الذاتي والتعويل على الذات، وإن لم تكن تخدم الغاية الكبرى للنهوض، وذلك بواسطة الاستخلاف و سقي التربة الثقافة الكليّة بما ينفع الناس ويعدّل العلاقة بين الروح والمادة؟
لا هي متماسكة في نظامها (دور التخطيط والتصميم)، ولا هي مُولّدة للقرارات الحاملة للحلول الصحيحة (دور المُحرك)، ولا هي مشحونة بما يلزم من الأهداف، ولا هي ذات توازن مَنيع قبالة تحديات العصر. تلك هي حالة الوَحدة الشاملة؛ وحدة غير متّحدة، بعيدة كلّ البعد عن تلبية شروط الوِحدة السياسية الشاملة، لا العربية ولا الإسلامية، التي يتوق إليها كل مؤمن بصفة تلقائية.

وقياسا على الوَحدة الكبرى، ومع الارتباط الوثيق معها، بات من السهل مشاهدة العشرات من الوَحدات المُنهارة في اليوم الواحد. وأفضل وضعٍ يُبرز لك هو باب انخرام التوازن بين القول والعمل. إذ هنالك من المؤمنين من يُحدثك اليوم عن تنديده بالهيمنة الأمريكية والصهيونية وعن تعاطفه مع الأشقاء في فلسطين والعراق وعن غلاء المعيشة وعن سوء السلوك في الطريق العام وعن التهوّر "الميكانيكي" في الطريق وعن تحريم الزنا وعن الرزق الحلال، ولكن لا يلبث أن يلتهم دخان نرغيلته في عشيته أو يلتقي حبيبته أو يشاهد فيلما في ليلته أو يشارك في ألعاب المَيسر لتَوّه أو يشاهد مقابلة الكرة لفريقه المفضّل، حتّى ترى سلوكَه، ونظرته إلى تلكم القضايا وإلى الشواغل التي كان يبدو متّحدا معك بخصوصها، وكذلك استعداده إلى الاندماج في منظومة التواصل معك على نفس الوتيرة، قد تغيّرت في اليوم المُوالي.

كأنك تتعامل مع شخصٍ ثانٍ يومئذ. فيتبيّن لك أنّ كلّ الجهد الذي بذله بالأمس في إقناعك بوِحدة وجوده أضحى معكوس النتائج. كيف لا، وقد زلّت قدمه فارتَمَى خارج وَحدة الوجود الشاملة. كيف لا، وقد بَحث في داخل وعْيه فلم يعثُر على الثوابت التي من شأنها أن تحافظ على هِمّته عالقة بالاستدامة في داخل  وَحدة الوجود الشاملة. ذلك ما يحدثُ لمّا تغيب شمس الحق وتتغيّب التضحية والمثابرة وينفذ الصبر و تُهمّش قيمة نكران الذات ويعمّ قصر النظر(أو ما سمّيناه، من باب الاستعارة، "الحَوَل العقلي") كل أركان وزوايا الوجود العربي. والملاذ الوحيد الذي في حوزة ذلك الإنسان عندئذ هو الانكماش في بعض المخابئ التي توفرها وحدات الوجود الصغرى، الجيدة منها والرديئة، على حدّ سواء (الرقصة والكُرة والأغنية والجلسة الخمرية والقُمار ولعب الورق والتدخين وغيرها). وما أن تعلّق الإنسان الضحية بهذه الوحدات حتّى تعتريها إمّا الرداءةُ (بَعد أن كانت جيدة)، وإمّا الهدم والتهشيم (بَعد أن كانت هزيلة لكنها مستورة)، إلى درجة أن تصبح هياكل عظمية لأجسام معتلّة؛ تلك هي أضغاث الأحلام و أشباه الحلول التي لم يقدر الإنسان العربي على أن يستغيث بأفضل منها، وهو حبيسٌ لِحالة متكررة من "الاحتباس التواصلي" (1). 
 
على تلك الشاكلة ترى الإنسان العربي المسلم يقفز من وَحدة إلى وَحدة من دون أن يُحافظ على الحبل الرابط بينها. بل قُل إنه يفعل ذلك بسبب غياب الرابط التوحيدي بين الوحدات كافة، وهو الرابط الحيوي الذي من شأنه أن يحوّل الكلّ، بفضل التفاعل بين الوحدات، إلى نظام متماسك للتواصل. والاحتباس التواصلي يبقى أُمّ المشكلات التي يتخبط فيها هذا الإنسان.
حدّث ولا حرج على كلّ من وحدات العلاقات بين الأولياء وأطفالهم والتلاميذ بدروسهم والطلبة بمشاريعهم والمدرّسين بدروسهم والفنانين بفنّهم ولاعبي الكرة بمدربيهم وبالحكّام والجمهور الرياضي (وغير الرياضي) بظاهرة اسمها الكُرة والأئمّة بالصاغيين إليهم، إلى غير ذلك من أشكال الوَحدة التي حكم عليها منظوروها بتطليق الوِحدة، وبانتهاج الطلامس والشعوذة منهجا. وذلك بالرغم من اقتداء معظم النخب العربية، كنتيجة للاستعمار المباشر، بالمنحى العلماني في تسيير الحياة العامة وفي إرساء تربية مستنيرة.

وفي مقابل ذلك الوضع البعيد كل البُعد عن صفات التوحيد، العلمانية منها والدينية على حدّ سواء، نلاحظ أننا نرغب لا محالة في نجاحات تضاهي نجاحات الأمم المتقدمة وفي إنجازات في قيمة إنجازاتهم. لكن سرعان ما ندرك في المقابل أنّه ليس لدينا ولو بصيص من الإيمان بفرضية وجود ذلك النوع من التوحيد العلماني، ناهيك أن تكون لدينا القدرة على توظيفه لغاية فهم وجودنا ككائنات مزوّدة بملكة العقل.وهذا بحدّ ذاته تعثر (إن لم نقُل فشلٌ)، لأنّنا لم نُدرك لبّ المسألة النهضوية: أنّ التوحيد مشروع يُشيَّد، وبناءًا عليه فهو تصميم يُصمّم ووحدة تُصان من أخطار الاختلال و التشرذم والتفتت.
على أية حال ليس لنا خيار سوى تناول قضية عجز العرب والمسلمين عن تكريس التوحيد في الواقع المعيش، من منظور العلاقة القائمة بين التوحيد العلمي المجرّد من جهة و عقيدة التوحيد من جهة ثانية، وليس فقط من منظور التوحيد العلماني الفطري. والسبب أنّ قلّة دراية أمة المسلمين بفنّيات الكشف عّما في الطبيعة والكون والإنسان من نواميس وسنن تُدرَك بالعقل المجرّد ودون اللجوء إلى العقيدة الدينية راجع إلى قوّة تمسّكهم بعقيدة التوحيد الديني. لذا ما العمل أمام التصادم الظاهري بين مبدأ الواقع (التوحيد العلمي) ومبدأ الرغبة (التوحيد بالله جل جلاله) ؟ أليس ممكنا الجمعُ بينهما بناءا على أنّ التصادم ليس عضوّا بقدر ما هو راجع إل خلل منهجي؟

بل قُل عسى التوحيد قانونٌ مكوّنٌ من وجهين اثنين بينما نحن، كما سبق أن قدّمنا أعلاه، فريقان متّحدان في الخطأ ومنقسمان في نوع الخطأ: أوّلا، فريق مخطئ في التمسك بوجه (التوحيد بالله) ومتغافل عن الثاني (التوحيد العلمي) أو جاهل به؛ وهو فريق الإسلاميين الأصوليين وغيرهم ممّن ليس لهم خيار آخر. ثانيا، فريق مخطئ في التمسك بوجه التوحيد العلمي المجرّد من الدين ومتغافل عن بُعد التوحيد بالله وقيمة آثاره الطيبة على الإنجاز العلمي؛ وهو فريق العلمانيين وغيرهم ممّن ليس لهم خيار آخر.
و للإجابة عن مثل تلك التساؤلات من أجل إثبات تعثر أمة التوحيد في تصميم مشروعٍ للتوحيد الشامل والمندمج (دينا وعلما) ابتغاء صيانة نظام الوحدات، أتصور أنّ فئة المسلمين الذين يُحبِّذون جمع وجهَي التوحيد، لهم نظريّا الأفضلية في أي مشروع للتدارك. وهم أولئك الذين سيجمع بينهم سعيهم إلى العمل والاجتهاد بمعزل عن الإيديولوجيا، الأصولية و العلمانية بالتساوي؛ أولئك الذين سيرفعون التحدّي الفكري بإيحاء من علماء الدين ومن علماء مؤمنين ومن عامة المسلمين الصامتين. بحيثُ إذا ما توصّلوا إلى المسك بناصية التوحيد العلمي والجبلّي من دون أن يزجّوا بعقيدة التوحيد في وضع انتظار(كما فعل العلمانيون) أو في وضع استنفار(كما فعل الأصوليون)، فإنهم سينجزون لا فقط ما عليهم أن ينجزوه (الجَمع والحفاظ على وحدة العلم) ولكن أيضا ما عجز عنه العلمانيون، داخل الفضاء العربي الإسلامي، وخارجه.

من ناحية، بخصوص ما عجز عنه العلمانيون الُمنضوون تحت شعار الفصل بين الدين والدولة داخل الفضاء العربي والإسلامي، قد أثبتُّ في دراسة مستقلّة أنّ الشعار سيظلّ كذلك، وأنه مَبعثٌ على الخلط طالما لم يتمّ إنجاز الجمع بين الدين والعلم. إنّه لمن قبيل الأسى أن يقف المرء على حالة من الرداءة تقتحم الوجود العربي إلى درجة أن يلجأ من هُم مِن ملّة الإسلام إلى إسقاط أمراض الكنيسة على الإسلام الحنيف، مُنساقين إلى الاعتقاد الخاطئ بأنّ الدين لا يُغني من جوع الحضارة، يوهمون أنفسهم بأنّ أفضل الحلول هو القفز على الماضي، وذلك بحَسم المسألة الوجودية بواسطة الأداة الإيديولوجيّة العلمانية.
و بالرغم من حاجتنا الأكيدة إلى الإيديولوجيا، إلاّ أنّ ليست كلّ إيديولوجيا مناسبة لنا، سيما تلك التي تأبى مجابهة "الفكر الديني الإنساني" (العبارة للأستاذ فائز البرازي) الذي لا يروق لهم، بالعقل، وتأبى توليد الجيّد من هذا الفكر، ضاربة بمئات الملايين من العرب والمسلمين عرض الحائط. كأنّ مُنظّري العلمانية العربية المجرّدة من الدين يوفرون لِبَني مِلّتهم حائطا لـ"البهجة"، يخالُون هؤلاء المسلمين الصامتين الكادحين يتمتّعون بعدُ بوضع مُريح من التواصل والتعبير عن الذات والهوية والشخصية، وِفق ثوابتهم التراثية والثقافية (والدين في مقدمتها). كأنهم يقولون لهم: "كفاكُم ترنّما بالدين، ولتكن الفرصة هذه المرّة سانحة لنا – أصحاب العقل – لكي نعبّر بالعقل على ما لم تقدروا، أنتم المتدينون، التعبير عنه بالدين".

كأنّ العلمانيين، بإقفالهم أبواب المساعدة أمام هؤلاءِ المؤمنين التوّاقين إلى نوع من الجَمع بين الدين والعلم، أبوابَ المَعونة على فهم دينهم بواسطة التظاهر الإعلامي و الفني والروائي وكل أشكال الإبداع الرمزي من أجل إثبات الذات وكسب القدرة على الإنتاج المادي، يُتيحون فرصة "العقلنة" لأنفسهم فحسب. بينما في واقع الأمر، بموقفهم ذلك، هم يُنكرون أنّ المخزون المعرفي و الثقافي الإسلامي يحتوي بالتساوي على مادة العقل، كمَا على مادة العقل. والنتيجة التي حصلت وِفق ذلك الموقف الناجم عن سوء تقدير(جرّاء القفز على الماضي) كانت نتيجة عكسية: لم تُمنَح فرصة التدارك لا للأصوليين ولا لخصومهم العلمانيين، بل كانت سانحة لعدوّهم أجمعين، الصهيونية. فِعلا، لقد كان الصراع والحوار البيزنطي بين طرفَي الاستقطاب السياسي من ملّة المسلمين أفضل فرصة أهداها إلى أولئك الذين يترصّدون "الرزق الذي مات أهله"، أولئك الذين يبكون على حائطٍ من كثرة الدّلال (بينما المسلمون مُبتهجون من كثرة الذهان) لكي يفتكّوا منهم نصيبهم من التعبير، بعد أن افتكّوا منهم أراضيهم.
لكن الحمد لله الذي أطال في أنفاس الإنسان العربي ومنّ عليه بفرصةٍ للإيمان بأن ليس من شيَمه التفريط في حقه في التعبير الشامل عن ذاته ووجوده وكيانه، لا لفائدة من يُنصّب نفسه ضميرا ينوب ضميره من بني جلدته، ولا لفائدة من لم يبقَ لديهم من الحقوق سوى حقّ انتهاز الفُرص إلى حين تبزغ شمس الحقّ .
 
أمّا إذا تناولنا، من ناحية ثانية، "العالمية العلمانية"، وهي غربية بالأساس أو ما يسمّى بالحضارة اليهودية المسيحية،أين نشأت العلمانية في أوروبا إثر حركة التنوير في القرن 18؛ إذا تناولناها  بالتقييم من زاوية النجاح أو العجز، فسنرى أنها ناجحة في بُعدٍ معيّن وفي الآن نفسه عاجزة في بُعدٍ آخر. فلم يتفوّق العلمانيون لأنهم يهود أو مسيحيون عقلا وعلما، بل لأنهم عقلانيون وفطريون ومُجبَلون على العلم  فحسب.وهذا نجاح بحد ذاته، لكنه يبقى نسبيّا ما لم يُختم بجمال. فخير الأمور خواتمها،كما يُقال.  وليست الخاتمة التي شهد عليها أفغانستان ثم العراق، بالإضافة إلى احتباس التواصل بإزاء القضية الفلسطينية، من الفضائل التي سيحسبها عاقلٌ على العلمانية. بل هي كوارث تسبب فيها الزّج بديانتَي اليهودية والمسيحية على الحلبة السياسية. وبتلك الطريقة خان التديّن نفسه عند الغربيين ولم يبقَ للعلمانية أية مصداقية في كونها تُفرّق بين الدين والسياسة. طالما أنّ أمم الغرب باتوا يُنجزون الاختراعات وتطوّر العلوم بـ"عقل" (العلمانية)، ويشنّون الحروب على المستضعفين بـ"عقل" آخر (اليهودية والمسيحية).

ومن هذا المنطلق سنفهم أنه يستحيل على أمم غير تلك التي لديها الإسلام- دين عقيدة التوحيد- أن تبلغ ذروةَ التوحيد (العلمي والديني المندمج) طالما أنّ "العقيدة" العلمية تبقى عند غير المسلمين متقلبة بتقلّب العلم نفسه، وطالما أنّ التوظيف الديني لديهم يساوي التهوّر والعنجهية ( فلسطين وأفغانستان والعراق). بينما عقيدة التوحيد عندنا، لمّا تستعيد وظائفها الأصلية والطبيعية، سوف تكون المحرك الأساسي للمسار العلمي، ولن يبقى حينئذ عُذر للمسلمين أن يورّطوا دينهم في أعمال لا تمتّ للإسلام بصلة مثلما حدث في الثمانينات والتسعينات بالخصوص.

فمن منظور الجَمع بين وجهَي التوحيد في فضاء أمة العروبة والإسلام، يكون الجَمع مشروطا بإنجاز الجَمع بين الدين والعلم (2). كما أنّ التوحيد هو التوحيد.إمّا أنك تبلُغه بالعلم فحسب، وهذا جميل لكنه غير كافٍ. وإمّا أنك تحاول تحقيقه بالدين فحسب، وهذا مستحيل. وإمّا أنك تتدرّب على بلورته بالعلم مع تأصيل المسار في علمك بالدين. وهذا هو المطلوب.

ولنحاول الآن فهم بعض نواميس وسنن التوحيد دينا وعلما، وفق المنهجية المندمجة والتفاعلية والتوحيدية. وما يمكن النظر إليه، هو في مرحلة أولى كيفية اشتغال كلّ وَحدة من الوحدات الوجودية، ثمّ في مرحلة ثانية، وضعية الوَحدة الواحدة بالتقاطع مع باقي الوحدات. فلأنّي أعتقد، على عكس ما يذهب إليه دعاة الفضائيات وبعض الحساسيات الإسلامية، أننا لم ننقطع أبدا عن أن نكون مسلمين، إذ "ومن يحاول أن يأتي للمسلمين بوسائل لاقتناعهم بدينهم فإنه يضيع وقته ورُبما يضيع وقت المسلمين أنفسهم" (3) (رحم الله مالك بن نبي،صاحب هذه المقولة. أمّا فهمُنا لكيفية اشتغال وَحدةٍ ما فيندرج في إطار التجربة بالملاحظة والمقارنة والتعليل. وهو تدريب على التوحيد العلمي من منطلق توحيدي عقائدي. وهذه لَعَمري ليست وسيلة للاقتناع بالدين الحنيف بقدر ما هي وسيلة لتوظيف الدين وتطبيقه بأدوات علمية، لأنها بعون الله "تتناول رسالة المسلم لا عقيدته".(4)

أمّا خير الوحدات فهي وَحدة الصلاة. إنّ الصلاة وَحدة لها غايةٌ؛ عبادة الله وعدم الشرك به. وللصلاة تصميم؛ النيّة والوضوء واستقبال القِبلة وستر العورة. وللصلاة أهداف وآثار طيبة؛ النهي عن الفحشاء والمنكر. ولمّا جعلنا الله "أمة وسطا"، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فيمكن اعتبار الوسطية، بصفتها "حالا" في مفهومها الديني، و"نتيجة عمل"، و"ليست مشروع عمل"(5)، خير معيار يقيس به المؤمن توازن الوحدة، سواء كانت وحدة الصلاة أو وحدة وجود أخرى. وللصلاة محرّك من دونه لا تستقيم، و إذا صحّ صحّت وإذا اختلّ اختلّت؛ الإيمان (عقيدة التوحيد) بأنها فرض سنّهُ الخالق البارئ. وهي وحدة من حيث تداولها في الزمان (خمسة أوقات مختلفة) وفي المكان (كل مكان ولو كان البحر أو الصحراء). والصلاة أمّ الوحدات لأنها، بنهيها عن الفحشاء والمنكر، تفتح السبل أمام المؤمن المُصلّي ليدرك بأمّ عينه – عينٍ توحيدية مندمجة وتفاعلية -  سنن ونواميس الَخَلق ( وهو التوحيد الفطري و الجبلّي والعلمي والعقلي): "سنُريهُم آياتِنا في الآفاق وفي أنفُسهِم".(6)

هل يتسنّى للمؤمن أن يعمّم، على كافة وحدات الوجود، توظيفَ التوحيد غايةً ومحرّكاً، والوسطية مِحرارًا للتوازن، والتصميمَ والتخطيطَ صمامَ الأمان للتماسك الصحّي؟ هذا ما نأمل أن تتوصّل إليه نُخبنا المثقفة وشبابنا. وليست القضية مقتصرة على توحيد كل وَحدة قائمة بذاتها على حِده. ذلك مثال لا يُحتَذى في الأنانية وبالتالي في تفكيك الوعي العام. ولن تفلح تلك الكيفية سيما أنّ الوجود العربي و الإسلامي، في ضوء ما تخلّصنا إليه من وصف لطريقة اشتغال الوحدات، لا يشكو من تسلّط الفرد للفرد إلاّ في المستويات الظاهرة للعين المُجرّدة. أمّا ما يشكو منه الوجود العربي، في نهاية التحليل، فهو استبداد المجتمع به.

واستبداد المجتمع العربي الإسلامي بالفرد هو العامل الذي زجّ بهذا الأخير في وضعٍ لا يسمح له بنفع المجتمع وإفادته؛ في وضع سانح لأن يلوذ الفرد بتخريب الوحدات ابتغاء الانعتاق من المكبّلات الاجتماعية لوعيه، ومنه الهروب من المسؤولية الاجتماعية. وليست السبيل لتوحيد كلّ وَحدة، ومنه لتوحيد نظام الوحدات – أو وَحدة الوجود الشاملة – للإنسان العربي والمسلم سوى إرساء ثقافة تنويرية من شأنها أن تولّد لدى الفرد، في العقل وفي الوجدان وفي العلم وفي الضمير، إعادة إنتاج وإعادة تدوير شواغل المجتمع من ألِفها إلى يائها، حتى يصبح هذا الفرد قادرا على تجسيم الحس الاجتماعي والتعبير عن قضايا المجتمع من تلقاء نفسه وليس بتوصية من المجتمع أو تحت وصايته. وهو نوع من تطبيق الإسلام، لن يتسنى تحقيقه إلاّ بواسطة توحيد الدين والعلم. والله أعلم.

محمد الحمّار
باعث "الاجتهاد الثالث" و"الفهم التفاعلي للإسلام"، تونس
 
المراجع: 
(1) مقال "نحن نعيش خارج التاريخ بسبب الاحتباس التواصلي والحل هو الاجتهاد الدائري"؛ نُشر في أكثر من موقع.
(2) قد بينتُ ذلك في دراسة ما لبثتُ أن أكملتُها، وهي مُكمّلة لهذه؛ "الفهم التفاعلي للإسلام: دمج الدين والعلم لتطبيق الإسلام".
(3) و (4) في "دور المسلم ورسالته"، دار الفكر، دمشق، 1989، ص 51.
(5) التعريف لعبد الرحمان الحللي، في حوار نقله موقع "الملتقى الفكري للإبداع" ونُشر تحت عنوان "الوسطية  متلونة بألوان الطيف الإسلامي"، بتاريخ 27-1-2010   
(6) القرآن الكريم؛ سورة فصّلت 53؛ وهي آية تنبّأ الأستاذ جودت سعيد، للكتابات عنها، بمستقبل زاهر).

Publicité
Publicité
Commentaires
Publicité