النموذج التونسي والتضييق على حرية التعبير والصحافة
النموذج التونسي و التضييق على حرية التعبير والصحافة
بالرغم من أنني أشارك الرأي العام المثقف وغير المثقف القناعة التي مفادها أنّ "أمة اقرأ لا تقرأ" - والتونسيون جزء من هذه الأمة- إلا أنني بدأت منذ مدة أشك في أن يكون الجمهور الرافض للقراءة هو المسئول عن هذا الصنف من التخلف.
على عكس المقولة المأثورة، أصبحتُ أميل إلى الاعتقاد أن الناس مستنكفون عن المطالعة لأنهم يؤمنون أنّ ما ينشر، في الكتب وفي الدوريات وفي الصحف اليومية والأسبوعية، لم يرتقِ أبدا إلى مستوى تطلعاتهم ولا يستجيب لحاجياتهم الحقيقية، بل لا يدلهم على تلكم الحاجيات في صورة أنهم فقدوا الصلة بها.
استطرادا، إنّ الاستنتاج نفسه يصح أيضا بشأن المادة المسموعة والمادة المرئية. مع هذا فإنّ إقبال الناس على البرامج الإذاعية والتلفزيونية ليس دليلا على أنّ هاتين الوسيلتين تُلبيان حاجاته الأصلية – التي لا تلبيها الكتابة- ولكنه دليل على السهولة التي تستأثر بها هاتين الوسيلتين باهتمام المستمع والمشاهد وبالتالي على أنّ فرص توجيه الذوق العام والرأي العام متوفرة لديهما أكثر مما هي متوفرة لدى الصحيفة المكتوبة أو الكتاب. فالمرء هو الذي يذهب نحو الجريدة أو الكتاب، لكن المادة الإذاعية والتلفزيونية كثيرا ما تأتي هي إليه دون أن يكون مهيئا لمتابعتها أو راغبا فيها.
في ضوء هذا، إذا كان حجب المادتين السمعية والبصرية صنيع خطير فإنّ حجب المادة المكتوبة أخطر بكثير، لأنه لا يحرم المتقبلين من مادة كانت ستُبث لهم وربما ستُفرض عليهم مثلما هو الشأن بالإذاعة والتلفزيون، ولكنه يحرمهم من مادة كانوا سيفتشون عنها وسيختارونها عن طواعية وبالتالي كانت ستستجيب لحاجياتهم أو ستكشف لهم عن تلكم الحاجيات وبالتالي ستسهم في تنمية قدراتهم الذاتية وفي تسخيرهم لمشروع التقدم الاجتماعي الرقي الحضاري.
وهذا مما يجعل الحرص الدائم على تحرير قطاعي الصحافة المكتوبة والنشر، من الرقابة والحجب، تمرين على القراءة بحد ذاته بل وتطوير لهذا النشاط - الكاسد حاليا- شريطة أن يصحب هذا التحرر تطويرٌ لجودة المادة المكتوبة. فإذا يُكتب للقارئ ما يُقرأ سوف يَقرأ.
إذن فالقضية المطروحة متعلقة بحريتين أساسيتين اثنتين على الأقل وهما حرية التفكير(وجودته) أولا وحرية الصحافة والنشر تاليا. ولكي نطرح القضية من هذه الزاوية نقول إنّ الفكر، إن وُجد، فلا قيمة له إذا لم تحرص الجهات المختصة بنقله إلى القارئ (إن كانت المادة مكتوبة) وبضمان حسن توظيفه إعلاميا مع اجتناب اعتماده للتوجيه الإيديولوجي (إذا كانت المادة من الصنف السمعي البصري).
إنّ هذه الحاجة إلى الفكر الحر والجيّد وأيضا إلى النفاذ إليه هي ما سمي بـ" حاجة الصوت"، وهي مصنفة من طرف منظمة الأمم المتحدة من بين الطلبات الثلاثة التي لم يتمّ تلبيتها في العالم العربي والتي يشترط أن تتوافر لديه لكي يلقى طريقه إلى التقدم.
وحق "الصوت" مصنف إلى جانب الحق في التمتع بظروف اجتماعية أفضل وبالحق في المبادرة الاقتصادية. وقد تمّ التنويه بهذه الطلبات الثلاثة في تقرير حول "تنمية القدرات في العالم العربي" صدر في سنة 2000 (استدل بها السيد راضي المدب الخبير الاقتصادي العالمي في محاضرة بعنوان "أي منوال للتنمية لتونس بعد الثورة؟" ألقاها بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، بتونس، بتاريخ 1-2-2014).
مع هذا فإنّ تونس، بلد الثورة ومهد المنوال الثوري الذي يريده التونسيون أن يكون أنموذجا يقتدى به، تعرف في الأشهر الأخيرة تضييقا سافرا على الحريات التي يتضمنها حق "الصوت" هذا.
في هذا الصدد، نشرَت إحدى صفحات الموقع الاجتماعي "فايسبوك"، بتاريخ 31-1-2014، التعليق التالي بشأن ما تتعرض له القنوات التلفزيونية الأكبر في تونس من رقابة وحجب: "قناة حنبعل : توقيف البرنامج السياسي "ملف الساعة". قناة التونسية : نهاية برنامج "التاسعة مساءا". قناة نسمة : تساند (في) الوزراء الجدد. القناة الوطنية: الأخبار رجع لونها بنفسجيـ(ا). سبحان الله راهي كلها صدف موش أكثر..."
وفي سياق التضييق على حرية التعبير وحرية النفاذ إلى النصوص المكتوبة والتدرب على نشاط القراءة وما يسفر عنه من تمكين ذاتي ومجتمعي، عاينتُ من جهتي هبوطا مدويا للصحف الورقية التي أعتبرها من خيرة ما يوجد على الساحة الإعلامية في تونس، ناهيك أن يفحص المرء ما يسمى بصحف المجاري. فلاحظت أنّ جريدة "الصباح" ذائعة الصيت تخلت، منذ ما لا يقل عن ثلاثة أشهر، عن ركن "المنتدى" الذي كان مساحة محترمة جدا يتمتع بها كتاب أحرار وينشرون فيها آراءهم دون رقابة. كما لاحظت أن جريدة "المغرب"، المكوّن الفتيّ والفاتن للمشهد الإعلامي الثوري، فعلت نفس الشيء بركن "قضايا وآراء" وذلك منذ بداية شهر أكتوبر المنقضي.
فمَن المسؤول عن هذا التراجع عن نقل الرأي إلى القراء وهل وقع المساس فقط برأي الكتاب غير المنتمين إلى المؤسسة الإعلامية الورقية دون أن يُحجب رأي المؤسسة بعينها؟ للإجابة أقول إنّ المعطيات المتوفرة لديّ، لئن لا تدل على تورط سلطة الترويكا الحاكمة (حيث إنّ التضييق حاصل قبل تسلم حكومة السيد المهدي جمعة مقاليد الحكم) في قمع الرأي الحر، فإنّ الدلالات واضحة وجلية على أنّ الجهاز الإعلامي بعينه طرفٌ في مضايقة نفسه، بصرف النظر عن تورط السلطة من عدمه.