Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
Publicité
Archives
Derniers commentaires
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
31 mars 2014

قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة- النص الكامل

 

rails

قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة

تيقنت منذ مدة أنّ الحراك الفكري والسياسي ما بعد الثوري في تونس ينقسم إلى سجلين اثنين. قد يكون هذا أمرا عاديا لو اشترك كل الفاعلين في السجلين أو اتفقت النخب على تقاسم المهام حيث تُوكل مهمة الخوض في كلا السجلين إلى فئة معينة قبل أن يتمّ التلاقح والتبادل المثمر للأفكار ومن ثمة تأليف القرارات التي تهم الخروج من الأزمة العامة وتعبيد الطريق إلى المستقبل. فما ماهية السجلين الاثنين؟ وما هو توصيف الانقسام النخبوي؟ وكيف يكون تقاسم المهام مستقبلا؟

أبدأ بافتراض أنّ هنالك ما أسميه "المشروع الحياتي" (المشروع العلمي والاجتماعي والحضاري) من جهة وما أسميه "المشروع المنهجي" من جهة ثانية. وهو ترتيب أثمرَته بحوثي وكذلك الآليات المعرفية التي استُخدِمت لإنجاز هذه البحوث (وليس هذا الحيز كافٍ للتوسع في شرح المنهج). ثم إزاء هذه الفرضية أعاين أنّ جمهور النخب من مفكرين ومثقفين وسياسيين وإعلاميين وسائر المهتمين بالشأن العام يخوضون بصفة تكاد كلية في ثنايا المشروع الأول آملين إيجاد مخارج تنفيذية/مادية للأزمة وأنه قلّ وندر أن نجد من يعير أية أهمية تذكر للمشروع الآخر، مشروع التخطيط لمقاربة بيداغوجية تمهّد للمقاربة التنفيذية. لكأن قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة الحديدية.

كما أعاين أنّ غالبية الناس الذين يشاركون في الحراك الفكري و في النقاش العمومي يتحدثون فعلا عن حزمة من المسائل والحاجيات والاستحقاقات على غرار الديمقراطية وحرية الإعلام واستقلالية القضاء وإصلاح التعليم وتسوية الوضع الاقتصادي وتوضيب الحالة الأمنية وغيرها من الاهتمامات. لكن الملفت أنّ التعاطي مع هذه القضايا يتمّ في اتجاه واحد. أقصد أنّ كل ما يحصل من قول و نقاش وحوار وتبادل للرأي إنما يحصل من دون حدّ أدنى من الوعي بضرورة البعد الآخر، بُعد المشروع المنهجي.

 إعلاميا، تتجسد نفس المعاينة في مشهدٍ يؤول إلى أنّ كل ما نسمعه على المذياع ونشاهده على التلفاز من مادة إخبارية أو تحليلية أو استقصائية أو استشرافية أو استقرائية أو غيرها والتي تتعاطى مع الأوضاع في البلاد لا علاقة له بالمشروع الآخر، لا من قريب ولا حتى من بعيد. بل الذي يزيد الطين بلّة ويثبّت المغالطة الذاتية إزاء الحاجة البيداغوجية هو أنّ تلك المادة مغمورة بالانطباع الذي تعطيه عن تمتعِ منتجيها _المزعوم_ بما يعرف الآن بـ"أكبر مكسب للثورة هو حرية الإعلام".

 هذا مما يحكم على تلكم الأنشطة العقلية الاجتهادية بالانحراف. وهو انحراف لا أعتقد أن يوجد له مثيل في عالم السياسة في العالم غير العربي. فقط يمكن الغوص في عالَم اللغة للوقوف على السرّ بشأنه: في قانون اللغة لا ينبغي _ حسب تجربة شخصية قائمة على التخصص العلمي ونابعة من التجربة المهنية_ أن يكون منسوب الكلام المنطوق به متفوقا بصفة مذهلة على منسوب الفعل المترجم عن الكلام، وإلا سيتصف أداء المتكلم بالحشو أو بالهراء أو بالهذيان إن لم نقل بالفُصام و بالعُصاب و بالهُذاء.

إذن حين نتمعن في ما يقال وكيف يقال وعمّ سيسفر عنه ما يقال سنتبيّن أنّ الأداء الكلامي للنخب المتناقشة والمتحاورة والمتناظرة إنما هو أداء من "يتكلم لكي لا يقول شيئا" كما جاء في المثل الفرنسي أو من ينتج "كثيرا من الكلِم بشأن لاشيء" كما أتت به المقولة الشكسبيرية. وحتى لا أكون مجانبا لأصول التقييم والتشخيص والتفكير المحسوبة على ثقافتنا الدينية، أقول إنّ نخبنا أضحت_ولو عن غير قصد_  ممن "يَقُولُون مَا لاَ يَفعَلُون" (القرآن الكريم- سورة الشعراء: 226). أما بلغة حداثة التخلف العربي قد يجوز القول إنهم ممن لا يخططون لِما سيفعلون.

هذا الجنوح عن النهج الصحيح ربما يعود إلى الاستثنائية التي اتصفت بها أحداث 17 ديسمبر-14 جانفي، حيث يلاحَظ أنّ حادث الجنوح لم يكن ليجدَّ ثم لتبرز مضاعفاته جليا لو لم يحصل ذلك التغيير التاريخي، أي لو لم يفجّر هذا الأخير الوضعَ العام بكل أساساته مُوَلدا مئات من المشكلات الاستثنائية فكانت ردة الفعل الفكرية والسياسية على الاستثناء "المشكلاتي" هي نفسها استثناءًا، لكنها كانت استثناءا رديئا وسالبا. في ضوء هذا، لا ينبغي أن يبقى المجتمع مقيّدَ العقل إزاء هذه الاستثناءات، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يجد لنفسه مبررا للمعضلة المنهجية.

نستنتج من جملة هذه الأوجه أنّ الغلوّ في سجلّ "ماذا نفعل الآن؟" من ناحية، مع غياب العناية بسجل "كيف نفهم المشكلة؟" و"ما الذي عسى أن نقوله فنفعله؟" من ناحية مقابلة، هو المتسبب في مجانبة القرارات الناجمة عن النقاشات والندوات والمقالات والمناظرات، مجانبتها للواقع من جهة ولانتظارات الشعب من جهة ثانية.

 ومنطقيا، بما أنّ الأفعال الجدية والمُجدية  تستند دوما إلى قرارات صائبة فإن الافتقار إلى البرامج التنفيذية (الأفعال) التي من شأنها أن تسهّل الخروج من الأزمة العامة في مختلف مجالات الحياة (المشروع الحياتي) ينمّ _ ولو بصفة غير مباشرة_ عن ضعف فادح قد خان ثقافة النخبة في مجال التكوين المنهجي، لا سيما أمام أزمة راهنة تحمل يافطة الاستثناء التاريخي. فهل من سبيل إلى تجسيد ما يلي: "فهمٌ مُمَنهج، فقرارٌ وسطي، فبرنامجٌ قابل للتنفيذ"؟

للإجابة، قد يصح أولا التشديد على أنّ المشروع الحياتي الذي يفترض أن يشتمل على مشاريع للتنمية الاقتصادية وللرفاهة الاجتماعية ولإصلاح منظومات التعليم والقضاء والأمن والاقتصاد وغيرها إنما هو مشروع معطل، وأنه لا غرابة في كونه معطل طالما أنّ المشروع المنهجي شبه غائب عن الوعي. بل إنّ مسألة صياغة المقاربة التي من المفترض أن تبرر أيّ حديث عن مشروع منهجي لا تزال نائية جدا عن الوعي.

ثانيا، يتوجب التنويه بأنّ الفشل المنهجي لم يكن كافيا للضغط على الفاعلين في مجالي الفكر والسياسة بل وعلى المجتمع بأسره حتى يثوبوا إلى رشدهم، حيث يلاحَظ على العكس من ذلك أنّ عدم تلبية الحاجة البيداغوجية وتأبيد التصحر في هذا المجال عقّد الأزمة العامة وجعل المجتمع يلجأ إلى التشكيك في البديهيات والأبجديات. وعلى رأس قائمة المسائل التي صار مشكوكا فيها بالرغم من البداهة المبدئية التي تستبطنها هي مسالة العلاقة بين الإسلام والسياسة.

 كيف لا وقد أصبح المجتمع بمقتضى الفقر المنهجي مقسما إلى إسلاميين وعلمانيين وصار هؤلاء يتشدقون بشعار "الدين مسألة شخصية" ليتهموهم خصومهم الإسلاميون بأنهم أعداء الدين، والإسلاميون ينافقون أنفسهم برفع شعار "الدولة المدنية" قبل أن يتهمهم منافسوهم بازدواجية الخطاب. وذلك عوضا عن تفرغ الجميع للبدء في تنفيذ مشروع الرقي والتقدم؟ بالمحصلة، نحن أمام مشكلة مفتعلة لكنها أصبحت موجودة حقا بمفعول قانون الاستثناء الثوري ومجرد وقوعها تحت طائلة هذا القانون يجعل إمكانية حلحلتها استثنائية _إيجابيا_ أو لا تكون.

 ثالثا، ليتَ هذه التداعيات تعني فقط أنّ المقاربة التنفيذية رهنٌ بتأسيس المقاربة المنهجية وأنها ليست بديلا عنها (مثلما سجلناه من خلال مختلف أوجه الحراك الفكري والسياسي ومن خلال العقم الذي يسم هذا الحراك). ليت حالة الانحراف المنهجي والفكري تتوقف عند هذا الحد. بل الأدهى والأمَرّ أنّ مضاعفاتٍ مثل الخبط في مسألة السيطرة على العلاقة دين/سياسة وتفرعاتها من اغتيال سياسي وإرهاب وأزمة اقتصادية ونزوح فضيع إلى العاصمة وضائقة مالية وغيرها قد زادت المشروع المنهجي تعطلا لأنه مازال في طور الرضيع الذي لم يقم بعدُ بخطواته الأولى على الطريق إلى الوعي.

 بالنهاية، لا يمكن أن تؤسس نخبنا المشروع العلمي والاجتماعي والحضاري (المشروع الحياتي) من دون تأسيس خطة منهجية لتوحيد الفكر، أعني مشروعا منهجيا يهيأ أسباب تشكل المشروع الحياتي. وإلا من أين ستأتي المكونات الضامنة لتشكّل هذا الأخير مثل التعددية واحترام حق الاختلاف والمواقف من القضايا الحارقة وغيرها من الحاجيات، حين يبقى كل طرف متشبثا بقراءته هو للحياة دون غيرها من القراءات؟

محمد الحمّار

 

Publicité
Publicité
Commentaires
Publicité