Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
Publicité
Archives
Derniers commentaires
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
24 février 2011

لا ديمقراطية بغير تحرير الأنا

لا ديمقراطية بغير تحريرالأنا

لنتحدث عن الحرية قبل أن نخوض في أي حديث عن الديمقراطية. لِمَ العجلة، ألا يقال إن في التأنّي السلامة و في العجلة الندامة؟

في يوم 12 فيفري/فبراير الجاري من السنة الجارية (2011) كنت من بين الحضور في لقاءٍ ممتاز أشرف عليه المفكر العربي برهان غليون، الذي يزور تونس بعد 19 سنة من الفراق بسبب تحفظه على دكتاتورية الحكم البائد. وكان برهان غليون، مثلما هو في كتاباته، محللا منطقيا ومبسطا للأفكار في معرض حديثه عما سمّاه "نموذج الحداثة السياسية" الذي منحته تونس للعالم العربي والإسلامي بفضل ثورة 14 جانفي/يناير.

وكان من بين السائلين عقب عرض الأستاذ الباحث المحاضر، مدرّس فلسفة ألقى سؤالا بخصوص "أين 'الأنا' في قضية التحرر التونسي والعربي". وكان بودي لو أجابه الأستاذ غليون. كما كان بوديي لو أدلى الباحث المحاضر تعقيبا على كلامي والذي مفاده أنه بسّط مسألة الديمقراطية إلى درجة غض الطرف عن الانقسام الإيديولوجي الحقيقي بين إسلامية وعلمانية. ذلك أني أعتقد أنّ مسألة تحرير "الأنا" ومسألة الانقسام(الناتج عن انشطار الوعي) وجهين لعُملة واحدة.

ومنذ ذلك اليوم صرت أفكك المعاينات والملاحظات التي تهاطلت على الوعي، إن فرديا أم جماعيا، منذ سقوط النظام، وأعيد تركيبها حيال تلك المشكلة المستعصية حقا، إلى أن بدأت أتحسس منوالا لرتيب البيت (الفكري) في ذهني. وقد تيسّر لي ذلك بفضل حدثين اثنين ارتسما لديّ كمعطيين أساسيين في معترك الحراك الفكري الذي أنَشطه يوميا بين الشباب: واحدا في المدرسة (طبعا أثناء فترة الخوف التي مرت بها البلاد على إثر الانقلاب في نظام الحكم)، والآخر في ليلة 22 فيفري على موقع فايسبوك.

قال لي بعض تلميذاتي في الفصل ذات يوم خلال الفترة القريبة الماضية إني كررت كلمة "أنا" 15 عشرة مرة في فترة 5 دقائق تقريبا. وكان موقفي على التوّ موقف المصدوم فأجبت ما استطعتُ لكني أجّلت الحسم في القضية حتى إشعار (فلسفي) آخر. أمّا في ليلة 22 جاءتني حجة جديدة لمّا استوردتُ فيديو على فايسبوك يحتوي على تسجيل لحديث أجراه التلفزيون العمومي التونسي قبل يومين مع قطب من أقطاب الفكر العربي الإسلامي الأستاذ والباحث وصاحب منهاج التفسير المقاصدي للقرآن محمد الطالبي.

فما فتئَتْ أن انقضَت بضعة دقائق على أوّل المشاهدات للفيديو انطلاقا من حائطيتي حتى انهال القذف على الأستاذ، امتعاضا من نظريته وانتقادا لأفكاره جملة وتفصيلا، وتنكيلا بكل مواقفه. لن أتحدث عن اتهامهم إياه بالمساس من الصحابة الكرام إذ إني لستُ قاضيا. لكني سأتحدث عن موقف المنتقدين في بُعده الرافض لأن يقولَ "عجوز" مثله كلاما مثل "أنا فعلت" و" أنا أقول" و" أنا أعتقد" و" بالنسبة لي" وغيرها من الأناءات إن صح التعبير. 

في هذا المناخ لقِيتُ نفسي حقا بعدَ أن كادت هذه الأخيرة تتيهُ في حراك الثورة الاجتماعية والسياسية. وفي هذا المناخ استعدتُ أنفاسي التي كادت تُقمعُ في وسط غبار اللاثورة العقلية والفكرية. وعاودتني المُساءلة: هل نحن قوم يريد فعلا أن يُغير ما بالنفس حتى يغير الله ما بهم؟ وهل تمّ ذلك بمجرّد هروب الحاكم وتعيين حكومة مؤقتة؟ وما الذي يجعل الشباب الذي قال كلمته في الانتفاضة، دون سواه، يرفض أن يُقال له "أنا"؟ هل هو ثائر ضد "أنا" بن علي؟ وهل كان لابن علي "أنا"؟

أمّا أوّل إجابة تتبادر للذهن أنّ هذا الشباب ينهار أمام مَن يواجهه بـ"أنا"، وذلك لسبب بسيط: إنه لا يعرف لِمَ تصلح "أنا"، ولا يستطيع أن يقول "أنا"، ولا أحدَ علّمه أن يقول "أنا". وذلك بالرغم من الإنذارات العديدة والمختلفة في ثقافتنا وفي تاريخنا. بل قُل وهل علّم حكامنا الشبابَ كيف يتناولون الثقافة والتاريخ؟

ما من شك في أن قدوة المسلمين الأولى والأخيرة، محمد ابن عبد الله صلوات الله عليه وسلم، لم يكن قط من أهل "الأنا". إلا أنّ السبب في ذلك واضح وبديهي وفريد: كانت "الأنا" لديه صلى الله عليه وسلم كلمة الله ووحي الله وأمر الله. فهل كان من الممكن أن يقول، عليه أزكى الصلاة، "أنا" أمام الزخم الإلهي الجبار والقوة الإلهية الخارقة؟  طبعا لا، وتلك كانت حجته لأن لا يقول "أنا". وكان قدوتنا محمد عليه أزكى السلام الإنسان الوحيد ( مثل الأنبياء كافة) الذي خوّلَ لنفسه، عن حقّ ومن أجل إرساء الحق، الامتناع عن "الأنا" بفضل قوة تلك الحجة.

ما من شك في أنّ هذه الميزة النبوية، وهذا التميّز عن سائر البشر وعن سائر المسلمين الذين اقتدوا به مباشرة، وهذا الاستثناء في الخطاب الإنساني عموما، كان سببا رئيسا بل ومُحركا مركزيا في عملية تكوين روح الجماعة لدى المسلمين، في زمن البعثة وفي حياة الرسول الأعظم، كما من بعده، في الحقب التاريخية المتتالية، الممتدة من زمن الفتوحات إلى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية.

لكن من جهة أخرى، وبالرغم من أني لست أخصائيا في علم التاريخ حتى أبحثَ في الأسباب التي أدت إلى انحسار الروح الجماعية والتي أنتجت قرون الانحطاط، إلا أني أقدر القول إنّ التراجع العربي الإسلامي في الحضارة زاد الـ"نحن" شكا في نفسها وبالتالي ساهم في اندثار "الأنا"، الأمر الذي حوّل هذا الأخير من "أنا" إيجابي وفعال بموجب قانون الجماعة القوية والمتماسكة إلى "أنا" سالب ومنفصل عن الجماعة. كما أقدر القول إنّ  ذوبان "الأنا" تزامنَ من دون شك مع انتقال الأمة من طور الخلافة المتحدة إلى طور الحكم العضوض (إما أنا وإمّا الفوضى) في ظل انقسام الدولة إلى مماليك وما صاحبه من توريث سياسي كعقيدة للحكم. وهذا مُهم لفهم العلاقة بين تدهور "الأنا" وتدهور نظام الحكم.

في نفس السياق لكن من منطلقات مختلفة، إنّ ما أشدد عليه بموجب تكويني وامتهاني لتدريس اللغة أنّ "الأنا"، الفطرية والعلمية والجوهرية، هي بالضبط عكس الاستبداد والتسلط ومصادرة الرأي المخالف والتفكير الآحادي الكلياني. فما الذي حدث في الوعي أو في العقل أو في الاثنين معًا لكي يستأثر "الأنا" الفاسد بالشباب فيزج به في دوامة مصادرة كل فكر تجديدي ينادي بتحرير "الأنا" من سطو الـ"نحن" الخداعة والماحقة لإرادة الفعل الفردي الحر الذي هو بنفسه ركيزة للإرادة الجماعية المتحررة؟ ما الذي يجعل شبابا في عنفوان تكوينه إما يؤلّهُ فكر كذا برُمته ودون اعتبار تلويناته وفروقاته الدقيقة، وإما يصادره دفعة واحدة بغير محاولة الانتفاع ولو بأقل نسبة ممكنة منه؟

وفي سياق متصل أشدد، كمدرس اللغة في المدارس التونسية، التي تشهد ربما واحدة من أقوى حركات العصف الفكري والوجداني والقِيمي في التاريخ المعاصر للإنسانية، على أنّ الرئيس التونسي المخلوع (وحتى بورقيبة)، والنماذج العربية الأخرى المستنسخة منه أو المشابهة له، لم يستبدّ بشعب تونس طوال الـ23 عاما التي قضاها في الحكم باسم "الأنا"، وإنما كان ذلك باسم "نحن" الإجرامية والفتاكة(كنت أستهزئ وأنا في الابتدائية، في عهد بورقيبة، لمّا أقرأ أو أسمع " نحن رئيس الجمهورية التونسية"). ولمّا جاء اليوم الذي فهم فيه هذا الفرد الطاغية، بن علي، أنّ الخلاص في "الأنا" الحقيقية قرر اللوذ باستعادتها بدافع انفعالي لا غير. إلا أنّه لقي الشعب قد حسم الأمر، وأكد أنه لن يسمح له بالتدارك، لا بفضل "الأنا" ولا بفضل "نحن" المدلَّسة: والدليل كلمة الطاغية الشهيرة في خطبة الهروب "فهِمتكُم" وكلمة "غلطوني"، ثمّ تمادي الشعب قُدما في ثورة عارمة أتت على الأخضر واليابس. وكم كان بودي أن يعفي الشباب الثائر "الأنا" الحقيقية من الاكتساح والمَحق والتبديد. إنّ هذا "الأنا" لا تستأهل التكسير، بل يستحق كل العناية والإحياء والتجبير.

ولم يكن القمع التكتيكي لـ"الأنا" الصادقة والحرة لدى الشعب، بواسطة الـ"نحن" المرَضية،  حكرا على بن علي، بل كانت قاسما مشتركا بين كل طغاة العصر الحديث، الذي أنا من بين الشاهدين عليه، سواء كان هؤلاء عربا ا أم عجما، شرقيين أم غربيين: مِن ستالين إلى ماو تسيتونغ، مِن فرنكو إلى بينوشيه، مِن الشاه إلى تشاوسسكو، مِن هتلر إلى جورج بوش، مِن بورقيبة إلى بن علي، مِن مبارك إلى القذافي. كلهم رضوا بتفتيت "الأنا" لدى كل واحد منهم لا لشيء إلا  لإذلال شعوبهم وتركيعها وبالتالي حرمانها من التعبير عن "الأنا" الجبلّي والمستقيم؛ لا لشيء سوى لمَحق الفرد في المجتمع بأن يسومونهم سوء العذاب وبأن يسلطون عليهم بطشهم وبأن يسقطوا عليهم استيهاماتهم الفرويدية وهَلوَساتهم النفعية.

ولكل واحد من هؤلاء الجبابرة درعٌ خاص به، يرتديه ليُنجز صنيعه الوحشي. فيهم مَن احتمى بالشيوعية فكرّس دكتاتورية البروليتاريا، ومَن امتهن التفريق بين الشعوب وإبادتهم بدافع الامتياز العصبي الجنسي، ومَن اختفى وراء القومية الخالقة للفتنة في داخل شعبه وبين الشعوب، ومَن تسلطَ بعنوان الشعبوية والوحدة الوطنية، ومَن خطط لركوب صهوة العالم بدعوى النظام العالمي الجديد، ومَن كاد يفني حياة شعبه برقم (تونس7؛ 26-26، وهو رقم الحساب الجاري لِما كان يسمى في تونس بالصندوق الوطني للتضامن)، ومَن كاد يبيع ضمير شعبه بمقتضى عقيدة اسمها التطبيع مع الصهيونية، ومَن نحن بصدد الشهادة على إمضائه على آخر صيحة في الدكتاتورية المصبوغة باللون (الأخضر) وبـ"نحن" و"اسم البلد" (ليبيا الشقيقة) المقصود بها "الأنا" الجبار المجرم المعتوه.

فماذا عسى الشباب التونسي والشباب العربي تعلّم من هؤلاء المُساومين والمتاجرين بـ"الأنا" الحقيقي لأفراد شعوبهم غير التصلب والعناد والمكابرة والاعتداد؟ والمفارقة أنّ بقدر ما استخدم الشباب ذلك "الزاد" كسلاح زوّدَهم به حكامهم، من حيث لا يشتهي المزوِّدون (وتلك قدرة الله العلي العظيم)، للانقلاب عليهم، بقدر ما يُجابهُ الشباب من الآن فصاعدا تحديا عظيما يتمثل في الانفلات.

ولا أقصد بـ"الانفلات" لا ذلك الانفلات الأمني ولا الإعلامي ولا الاقتصادي الذي عايشناه على إثر الانتفاضة تلو الانتفاضة، وإنما الانفلات من الديكتاتورية الذاتية التي أبى الحكام المجرمون إلا أن يجعلوا الشباب وريثا شرعيا لها. وهل شباب تونس، المعروف بالذكاء، غبيا إلى درجة أن يرضى بالإذعان للتوريث الاستبدادي، الآن وقد أثبت جدارته في القضاء على التوريث السياسي في أعلى هرم السلطة؟ ألم يدق ناقوس الخطر ليعلم الشباب أنّ بذور التوريث الاستبدادي موغلة في اللاوعي، وأنها لا قدّر الله مرشحة لمعاودة الدورة الديكتاتورية على أياديهم هُم، معاذ الله؟ 

قد أتحمّل، بل من واجبي أن أتحمّل، بعض الانتقادات الموجهة لي بدعوى المغالاة بـ"الأنا" يُدلي بها تلاميذ وتلميذات أحبهم ويحبوني (ويخجلون من مُصارَحَتي بفحواها علنا، بفضل دماثة أخلاقهم) لكنّ الذي يؤلمني حقا هو الموقف من العلم ومن البحث العلمي ومن التجربة العلمية ومن التجديد في الفكر الديني الإنساني. فلا أقبل، ولا يقبلُ عاقل، إن مِن الشباب أم مِن الكهول، أن يُقصف العقل العلمي قصفا وأن يتعرض فكرٌ مثل فكر محمد الطالبي لحملة شعواء لا لشيء إلا لكون هذا الفكر مناوئ لفكر شخصية أخرى في مجال الحراك الفكري الديني.

إنّ الشباب التونسي والعربي، الذي اكتشف في خضمّ الثورة المباركة، الاجتماعية والسياسية، في كل من تونس ومصر إلى حد هذه الساعة، أنّه لا يتحمّل من يقول له "أنا"، قد يطالب نفسه (وهذا ما أرجوه كمُربٍّ أغيرُ بحق على الشباب) من هنا فصاعدا، بالوعي أنه بحاجة ماسة إلى فكر مَن سبقوهم بالتفكير، من أمثال محمد الطالبي ومَن لهم محاولات من مختلف الحساسيات، لكي يُتمموا ثورتهم.

وأوّل الدروس، وهي من الصنف الذاتي أكثر منها من الصنف التلقيني، أن يطالب الشبابُ مَن سبقوهم في التفكير، بأن يساعدوهم على الانفتاح على الذات وعلى سبر أغوارها. وأتصور أن يكون الغرض من الانفتاح والسبر تعلم الآليات الضرورية، وهي علمية وتواصلية، التي ستُفضي بعَون الله إلى تحرير "الأنا" المُهرّب  (الذي هربه كل من بن علي ومبارك والقذافي وغيرهم؛ وهو تهريب أبشع و أفظع من تهريبهم للبلايين من الدولارات).

 أمّا الكلمة المفتاحية لقُفل الوعي، الوعي بلزوم الدرس الذاتي هي: ليس مَن يقول "أنا" مرشحا لأن يكون نموذجا لا لابن علي ولا لمبارك ولا للقذافي ولا لغيره من الطغاة؛ لقد تبيّن أنّ هؤلاء من المنحدرين مِن عصابة "نحن" ، المفترسة للـ"الأنا".

 وبما أنّ الشباب لم يرَ قط نموذجا من "الأنا" المتحررة، ليرَهُ إذن في رموزٍ غير رموز السياسة. فليس المفكر سياسيا ولا حاكما بالتحديد، ولن يكون كذلك إلا في حالات نادرة. فهو بالتالي كفيل بتأمين المصداقية التي لا يقدر السياسي على تأمينها للشباب. ثمّ لا بد أن يأخذ هذا الأخير الجيّدَ مِن فكر كذا ليُضيفه إلى الجيّد من فكر كذا، لا أن يقارن الجيّد من الفكر الذي يفضله بالسيئ الذي عند فكرٍ آخر؛ إنّ هذا لمن باب اللافكر.

محمد الحمّار

 

Publicité
Publicité
Commentaires
Publicité