Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
Publicité
Archives
Derniers commentaires
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
الإسلام والعصر/New Epoch Islam
11 juillet 2010

أمّة 'اقرَأ' لا تقرأ لأنها مفصولة عن الطبيعة والحداثة

أمّة 'اقرَأ' لا تقرأ لأنها مفصولة عن الطبيعة والحداثة

في صبيحة اليوم السنوي للّغة العربية الذي انتظم تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "ألكسو" و الذي وافق غرّة مارس/آذار في سنة 2010، شغّلتُ المذياع فصادفتني بداية برنامج ثقافي ترفيهي في شكل مسابقة تعتمد الأسئلة.

أعجبني سؤال المذيع :" كمْ يبلغ عدد مستعملي العربية في العالم كلغةٍ أُمّ؟" (290 مليونا). وبينما كنتُ أراجع معلوماتي كمُشارك افتراضي، صدمني جوابُ أحد المتبارين الثلاثة، وهي طالبة في السنة الثانية حقوق: "سبعة ملايين.» وعلى إثر سقوط القنبلة على رأس المُذيع مثلما سقطت على رأسي، لم يرَ بُدّا من أن يُقَهقِهَ ثمّ يعلّق متهكّما: "أنتِ تقصُدين أنّ بلدنا الذي يعُدّ وحده قرابة 12 مليونا، فيه 7 يتكلمون العربية والبقية الباقية يتكلمون لغات أخرى، حسب تقديراتك. وماذا عن البلدان العربية المتبقية؟"

عندئذ تدخّل المُتباري الثاني، وهو طالب أيضا، مُستدرِكا ومُغتنما الفرصة للفوز: " الجواب عندي هو ثلاثة بلايين"..

هذه  حالة الأمّية التي تعيشها الأجيال العربية الحاضرة، وذلك بالرغم من التقليعات الجذابة والسيارات اللماعة  والشهادات المزدانة والألحان العذبة والكلمات الرنانة، وما يشابهها من المظاهر الخلاّبة. وليست فتاة السبعة ملايين عربي الوحيدة من بين الشباب الذي يتخصص في الحقوق ويكرّس العقوق ، يدرُس الفلسفة ويتفنن في الهرطقة، يتناول العلوم و يسبح في الغيوم، يتلقّى المعرفة وينتج الجهل، يصبو إلى الحضارة و يستبطن المغالطة ليتبوّأ بها مكانا له في الصدارة  .

وفي وضع مثل هذا الذي يشهد على أنّ من "يقرأ" لا يقرأ، لم تَعُد مقولة "أمة اقرأ لا تقرأ " المتداولة على الألسن هذه الأعوام سارية المفعول. الأحرى أن نتقدم في فهم المشكلة. والتقدم يبدأ بما يلي: لمّا أنظرُ إلى الصورة التي فيها فتاة السبعة ملايين عربي وعشرات الملايين من الطلبة والطالبات والتلاميذ والتلميذات، ناهيك عشرات الملايين من الشباب الأمّي، وهم مصابون بأمية البديهة وهي أخطر من أمية الكتابة والقراءة، لا أُصدّق لغة الأرقام والإحصائيات التي تُروَّج عن ندرة القراءة عند العرب والمسلمين؛ كذبَت الأرقام و الإحصائيات ولو صدَقَت(1). لكنّي أُصدق، في المقابل، أيّة قراءة جديدة للقراءة.

وبقدر ما يستدعي مشكل القراءة والتعلّم والمطالعة الجدّة في الطرح وفي الفهم بقدر ما يتوجب إقحام أهمّ ما جَدّ من العناصر التي اقتحمت فضاء القارئ المحتمل (الإنسان العربي المسلم) في العصر الحديث، فضلا عن عنصرَي اللغة العربية، لغتُه، والإسلام، دينُه. وأعني بالعنصر الجديد الحداثة طبعا.

أفترض أنّ أمّة 'اقرأ' لا تقرأ لا لأنّها ترفض القراءة بل لأنّ الثقافة العربية والفكر العربي قد انقطعا منذ أزمنة غابرة عن توليد ما يُقرَأ، ومنه الشهيّة للقراءة التي من دونها لا يقع ربط أواصر الذات مع الواقع المستحدث. كما أعتزم بيان أنّ العقل العربي لن يكون ذائع السيط مثلما كان الأمر في العصور الذهبية للأمّة، قبل أن يستعيد القارئ العربي تلك الشهية للقراءة.

وأتصور أنّ النجاح في ذلك رهين حسْم المعادلة بين الثالوث لغة عربية/إسلام/حداثة. أي أنّ لغةً عربية مستحدثة ومعاصرة (2)، أداة وفكرا، بالتأليف مع دينٍ صاحٍ وقويّ سيُكوّنان غُرّة الصيرورة العربية. وأوّل ما سيتمخض عن نجاح العقل العربي في رفع ذلك التحدي هو عملية استبطان عنصر الحداثة وضمّه ضمّا لا رجعة فيه. وهل من هدف أوّلي لإنجاز هذا المشروع خيرٌ من استعادة الميل الطبيعي إلى القراءة؟

إنّ استعادة الشهية للقراءة إذن مرتبطة بهضم الأداتين اللتين لهما وظيفة الامتصاص والاستبطان والضم، وهما اللغة والدين، للحداثة. لكن، وفي بداية شرحنا للمسألة، ما من شك في أنّ بين الأداتين والحداثة برزخٌ يمنع القارئ المفترَض من الاندفاع نحو القراءة والتعلّم والمطالعة والبحث، ويحول دون اندراج خلايا التوق إلى المعرفة في خَلَد الإنسان العربي المسلم: علاقة الإنسان العربي المسلم، المتردّية مع الطبيعة.

نعم علاقة أطفالنا وكبارنا، حتى بِما لا يضرّ من الحشرات والحيوانات، مثلا، ليست علاقة طبيعية، ناهيك الادّعاء أنها حداثية، أي مثيرة لفضولٍ علميّ من شأنه أن يؤدّي إلى فهم أفضل لطريقة سير الكون وإلى تملّك القدرة على تشخيص سنن الخلق فيه. لا النملة ولا الصرصار و لا السحلية و لا الهرّة ولا السمكة تثير فينا الشعور بالانتماء الواعي إلى هذا الكون. إنّ عُرانا مع الحيوان تدنّت، منذ قرون ربما، إلى مستوى الصفر؛ مستوى الأكل والاستهلاك دون سواه. لذلك ترانا نكنّ عطفا خاصا على الدجاجة والخروف والسمكة (الميتة) وغيرها مما يؤكل لحمه، دون سواها. وكذلك الشأن بالنبات والثمار.

ومن هنا أرجّح أنّ المسافة الفاصلة بين المُضَيّفيَن (اللغة والدين) والضيف (الحداثة) وبطانته (الطبيعة) ستكون أُولى الدرجات وأخطرها على سلّم مشروعٍ حضاري اسمه "القراءة". وحريّ بالتالي أن يتمّ التنقيب في صميم تلك المسافة بالذات لكي يحصل المشروع على بطاقة ميلاده وعلى الإذن بالشروع في إنجازه، وذلك بفضل تصوّرٍ عام وشامل. ولن يتمّ رسم التصوّر و تأليف شهادة الميلاد إلاّ بمُساءلة تحوم حول محاور من  أهمّها نذكر: لماذا نقرأ؛ متى نقرأ؛ كيف نقرأ؛ ماذا نقرأ؟

كما أنّ عملية تأليف شهادة الميلاد لمشروع القراءة تستند إلى مبدأ "التخلية والتحلية" الديني (الصوفي) وكذلك إلى مبدأ حديث في التربية المعاصرة (3)، و تشتمل على مراحل نخص بالذكر منها ثلاثة:

*التفريغ (محو المعرفة الفاسدة) لنفض الغبار عن الطبيعة:

تفريغ المعلّم لزاد المتعلّم من كل الفضلات الإيديولوجية والخرافية والإعلامية المنتصبة مثل حائط الصدّ أمام عقل المتعلم، حائلة دونه ودون التقبّل المباشر للمادة المسموعة والمرئية والمقروءة.وأعني بالتقبّل المباشر منهج التلقّي الإيجابي والنشيط للمعلومة بغية ربطها بالوجود الإنساني عموما وبوجود الإنسان العربي المسلم على وجه الخصوص.

وقد وضحنا في سابق الدراسات والمقالات أنّ مبدأ "اللهمّ علّمني ما ينفعني وانفعني بِما علّمتني" سندٌ ذو فعالية عجيبة في هذا المضمار(4). فالقراءة ليست فقط إماطة اللثام عن معاني ودلالات الحروف والكلمات والجمل والفقرات والنصوص، بل هي أيضا استئناسٌ بوسائط التواصل غير المقروءة مثل الراديو والتلفزيون، لِما لهذه الأخيرة من جدوى في ربط أواصر المعرفة والتواصل بين ما يُقرأ وما يُسمع وما يُشاهد.

*الاستكشاف والتماس بالطبيعة:

ليس للقراءة، من هذا المنظور، فقط دور المطالعة من حيث تعميم فائدة الإطلاع على أوجه الحياة المختلفة من خلال الأعمال الأدبية، لكن أيضا وبالخصوص تحفيز القارئ المعاصر في هذه الحقبة المتميزة بتعدد الوسائط، أي المُطالع والمستمع والمشاهد، لإيجاد إيجابات عن أسئلة " لماذا نقرأ؛ متى نقرأ؛ كيف نقرأ؛ ماذا نقرأ؟"

ومرحلة الاستكشاف هذه هي مرحلة يكتشف على إثرها القارئ المفترَض من أمة 'اقرأ' أنه كان يرفض القراءة لأنّ لم تكن له حاجة إلى القراءة، وأنّ غياب الحاجة سببُه عدم انسجام ما بوعيه مع ما ليس بوعيه. ويمكن تصنيف القضايا السياسية للأمة مثل تلك المتعلقة بفلسطين وبالعراق أو القضايا المتعلقة بالإسلام و الديمقراطية، في خانة ما بالوعي. كما يمكن تصنيف صلة الإنسان العربي المسلم العلمية والمعرفية والحسية بالطبيعة ومنه بمراحل تحول ما بالطبيعة إلى حداثة، في خانة ما لم يتجذّر بعدُ في وعيه.

وهل من إدراكٍ للبعد الحقيقي لمسألة النهوض العربي الإسلامي من دون دمج الوعي بالطبيعة، ومنه بالحداثة، بعناوين الكفاح السياسي والحضاري المُعلن؟ بل وهل يمكن الحديث عن وعي المسلم بما يشهره من عناوين الكفاح لمّا تكون هذه مفصولة عن الوعي الطبيعي و الحداثي؟ ما من شك في أنّ الجواب يكون بـ"لا".

وسيكتشف القارئ المفترض أن الذي جرى في هذه الشروط هو أنّ المواطن العربي المسلم لا فقط  لم يتحول إلى قارئ ساعٍ إلى تبليغ رسالة إلى العالم في هذه الألفية الثالثة، بل لجأ إلى تلبية حاجيات سطحية تعوّض له حاجياته الحقيقية، مذعنا لإيديولوجيات الرياضة بأنواعها ولإيديولوجيات الرفاهة بأصنافها. وكانت نتيجة هذه المغالطة الذاتية أن تشكلت لدى الإنسان العربي المسلم طبقة من وعيٍ مزيّف يُملي عليه موقفا غريبا: "لماذا أقرأُ ما دمتُ أتمتع بالخيرات من أكل وشرب ولباس ونقل مريح وسفر وترفيه؟ لو قرأتُ لضيّعتُ على نفسي فرصة تحقيق المزيد من الإنجازات." ويا لها من إنجازات.

وسيكتشف، بناءا على ذلك، أنّ نتيجة تلك النشأة المختلة كان تدخّلُ الوعي المزيف، بوقاحة نادرة، في كل قرار نهائي يتخذه العقل الفردي والمجتمعي: كلّنا – انا وأترابي -  رأينا بأمّ أعيننا جحافل من ورثة المؤمنين تلهث لتصل إلى البيت وتُشغل جهاز التلفزيون لكي تتفرّج على ما يحصل في العراق (1991) ثم في أفغانستان (2001) ثم في العراق ثانية (2003) ثم في غزة (2008 – 2009). سيكتشف أنه، على تلك الشاكلة، سمح بتطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني، مع اختراع عضلات للدين الحنيف ليتمّ استعراضها أمام العالم بأسره بدعوى الانتقام من عدوّ اختاره هو أن يبقى افتراضيا، بعدما تمّ تزييف كامل المعطيات في الذهنية العربية الإسلامية. وسيُبَث ذلك الاستعراض على شاشات التلفزيون و سيكتشف القارئ الافتراضي أنه كان متفرّجا على نفسه وهو يفرّط فيها لِمن سيُفنيها أمام عينيه. 

وسيدرك القارئ المفترض في نهاية التحليل وعلى إثر مرحلة التفريغ وما تلاها من استكشاف واستطلاع أنّ المجتمع العربي الإسلامي حقق ما يشبه الرخاء الاجتماعي مقابل تنازله عن واجباته في الكدح من أجل استحقاق الاستخلاف، وعن حقوقه في ضمان الاستثمار الرصين للثروة الطبيعية، وأنّ الوقت قد حان لكي ينجز التنازل العكسي.

والتنازل العكسي هو التفريط في وسائل الرخاء، ومن ثمة استثمار الطاقة المدخرة والمال المُوفَّر في مشروع استرداد ما ضاع من مبادئ وحقوق وواجبات، أي مشروع التدارك الحقوقي والمعنوي والعلمي والحضاري. وهذا بالذات هو المشروع المستقبلي، العربي الإسلامي والعالمي، للقراءة.

*التعبئة (إعادة التعلّم) وبدء التملك بالطبيعة:

بعد التفريغ والاستطلاع تأتي التعبئة. وهي عملية تنوير شاملة يقودها نفرٌ من المثقفين المستنيرين وينفذها فنانون وأدباء وعلماء ومنشطون في القطاعين المكتوب و السمعي/البصري. ومن الخطأ أن يتمادى قادة الرأي في اللجوء إلى ملاذ الفكرة المتعنتة القائلة إنّ القراءة هي السبيل إلى التنوير.فالقراءة، كما بيّنّا، مسارا تنويريا وليست مقدمة للتنوير. ويأتينا البرهان من أوروبا القرن الثامن عشر أين تمّ إنجاز التنوير على أيدي فيئه الفلاسفة والمُنظرين، وما كان على سواد الشعب من الأميين إلاّ الثقة بهم و إتِباعهم.

وللتنوير العربي الإسلامي حاجيات قد يشترك فيها مع التنوير الغربي ما دام هؤلاء وأولئك يخدمون الصالح العام، صالح الحضارة العالمية بأسرها. والآلية الأساسية التي أراها صالحة لنا مثلما كانت صالحة لهم لبناء نظام فكري وعلمي جديد انطلاقا ممّا هو سمين في الواقع الحالي للحضارة الكونية، هو لا شيء غير المنهج العلمي التجريبي، الميداني، العملي؛ منهج السيطرة على الطبيعة، وهو الذي أسس للحداثة بمفهومها الغربي بنسبة جد مرتفعة.

أمّا ما سيُظهر الفارق بين نموّهم الحضاري(المكتمل) ونموّنا الحضاري (المبتدأ) فهو العامل الإيماني والمتمثل في حسن توظيف عقيدة التوحيد، عقيدة دينٍ جاء للعالمين؛ الإسلام الحنيف. وتوظيف العقيدة يتطلب استحداثا لمنهاج ينسجم مع التوجه التجريبي الميداني؛ وهو منهاج التأليف لغة/دين، الذي قدمتُه أنفا.

الإسلام حياة؛ واللغة حياة؛ إذن الإسلام لغة. ذلك ما استطعت فهمه من مقارنتي للنظام الخاص بكلاهما مع الآخر وفي محك الحياة. والمسلّمة المنبثقة من هذا الطرح تتمثل في كون كلا المنظومتين (اللغوية والدينية)، سواء متفرقتين أو مجتمعتين في تأليف واحد مندمج، تكسب بُعدا منهجيا تجريبيا وميدانيا يُسحبُ على المجالات الحيوية الثلاثة: الطبيعة و الإنسان والمجتمع ؛ وهي المجالات التي لا بدّ لتصوّر مشروع القراءة أن يدمجها بما يلزم من ترابط و تقاطع و تكامل وتفاعل بينها.

ولمّا ننظر إلى الحداثة بواسطة المنظار التجريبي الطبيعي ومن منظور المسلم الواعي بسلطة اللغة والعقيدة الدينية ونفوذهما على العالم الحسي (كما على العالم الفكري والمعنوي والرمزي)،  سنلاحظ أنّ اختراعات مثل الدراجة أو المحرّك أو المركبة (السيارة) أو الغواصة و الطائرة أو الحاسب الالكتروني أو غيرها من المنتوجات المادية للحداثة، إنّما هي نسخٌ مطابقة للأصل، بعضها  لِصورة أو وضع أو صفة لدى الإنسان وبعضها الآخر لِصورة أو وضع أو صفة لدى الحيوان أو لِسائر عناصر الطبيعة.

فالطائرة استحداث للعصفور ولسائر أصناف الطيور. والدراجة اقتداء بكلّ من يمشي بتوازن عجيب على رجلين اثنين. والمحرّك تركيب متكون من أجهزة لو أمعنّا فيها لتبيّنّا أنّ كلاها يشبه، في وظيفته، واحدا من أجهزة جسم الإنسان. والغواصة مستوحاة من الحوت ومهاراته. والحاسب يملك عُرى ثابتة ومتينة مع دماغ الإنسان.

وسؤالي هنا: هل في اللغة العربية المستعملة اليوم، وهل في الفكر الديني الإنساني الذي يتملكه سواد العرب المسلمين، ما يقيم الدليل من قريب، بالقرب والقرابة اللتين  يتطلبهما التقدم والرقي، على حسن تحكمنا بالطبيعة بما يبني ثقتنا باستحقاق صفة الإنسان، فردا ومجتمعا، والتي حبانا بها الله وميّزنا بها على سائر مخلوقاته؟ جوابي أن "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يُستجابُ لها."

وما هو التقدم اليوم إن لم يكن صفوة مستندة إلى الإنجاز العلمي؟ وما هو العلم إن لم يكن نسيجا محبوكا بواسطة التجارب العينية والمخبرية والميدانية، يؤدي حتما إلى الارتقاء باللغة العربية وبالأداء الديني معا، ومنه إلى صيانة الإسلام، على الأقل اعترافا لله سبحانه تعالى بهذه النعمة التي صانت ملّتنا من الانقراض لمدة قرون؟

اعتبارا لذلك يمكن بعدُ الحُكم على علاقة متكلمي العربية بلغتهم بأنها رديئة لأنّ علاقة المتكلّم بالتجارب الميدانية ضعيفة إن لم نقل منعدمة الوجود، أي أنّ هذا الرابط بين متكلم اللغة واللغة نفسها موجود في وضع انفصال. كما يمكن الحكم على علاقة المؤمن بالإسلام بأنها علاقة تواكلية، وأنّ السبب في ذلك هو نفس السبب الذي خذل العرب في لغتهم: انفصال الفكر الديني الإنساني عن كل ما هو تجريبي وميداني ومُكتشِفٌ لسُنن الخلق في الطبيعة. فما العمل؟

ما من شك في أنّ الإنقاذ، إنقاذ العربية، لا يبدأ بتحسين تدريسها للشباب أو بتكثيف تمارين النحو والصرف والإعراب والقراءة والإنشاء وغيرها من أساليب التعليم اللغوي، وإنّما يبدأ الإنقاذ بالعناية بالفكر العملي والمعارف الميدانية والتجارب في مجال الإنسانيات والطبيعة والاجتماعيات. عندئذ يمكن أن نقول إنّ شباب العرب والمسلمين بدأ يقرأ.

كما أنّ الإسلام لم يكن مُقصىَ لأنه الإسلام بل لأنّ المسلمين لم يقدروا التعبير عنه بشتى الأساليب الإبداعية، بل كما يقول عبد الكريم سروش، باستعراض عضلاتهم، وهي من صفات الفاقد للثقة بالنفس. ومنه فإنّ صيانة الإسلام لا تتطلب تعليم الدين لمن يعرفه من أوّله إلى آخره، كما قال مالك بن نبي قاصدا كلّ مسلم، بل تعليم كيفية معرفة الله من خلال معرفة سنن خلقه للطبيعة، وكيفية اكتشاف أسرار الطبيعة وبالتالي سنن نشأة الحداثة في الفكر الغربي، وأخيرا أساليب تحويل الحداثة إلى زاد حضاري تابع للإسلام ولثقافة المسلمين. وهل هذا الإنجاز بعزيزٍ على أمّة أحسّت بلزوم كبح جماح الحداثة (وإمبراطورها الأخير، العولمة) من أجل المسك بزمامها؟ فـ"يا دُنيا خَدّمي مَن يَخدمُكِ واخدِمي مَن يَخدمُني"، آمين. (5)

ثم لننظر إلى حالة المطالعة مثلا. وهي رافد من روافد القراءة، وليست كلّ القراءة. فكل الأخصائيين يشتكون من ندرة المطالعة عند متكلمي العربية. فهل هذا الشح ناتج عن عدم توفر الوقت أو عامل الترغيب أو المواضيع الجذابة، أم أن ذلك الشح عائد إلى انعدام الشهية للقراءة، كدليل على أنّ الرابط بين القارئ وبين اللغات عموما مفصول؛ وعلى أنّ الرابط بين القارئ وعقيدة التوحيد مفصول أيضا؛ وعلى أنّ، في الحالة اللغوية كما في الحالة العقائدية، رابط التجربة العملية لدى القارئ العربي المسلم مفصول عن الطبيعة؟ ما من شك في أني أرجح الفرضية الأخيرة.

هكذا لمّا تسمع، على سبيل المثال، أنّ  دراسة مؤخرة في تونس تبرز أنّ قرابة ربع التونسيين لم يقرؤوا كتابا البتة (6)، فيتوجب قراءة الإحصاء كالآتي: إنّ رُبع التونسيين يعتبرون المطالعة غير صالحة؛ والسبب في ذلك هو أنهم لا يعرفون ماذا سيقرءون؛ والذي منعهم من المطالعة هو افتقارهم لحاجيات تُلبّيها المطالعة؛ وحاجيات المطالعة مفقودة لديهم لأنهم لا يُجيدون التعامل مع النبات والحيوان والكون وبالتالي مع الإنسان مستعمل الطبيعة والمستخلَف في الأرض. وهذا عجزٌ  يُسحبُ على الثقافة العربية الإسلامية كافة في طورها المعاصر، وعلى كافة المجتمعات المعنية بها. فمن الطبيعي إذن أنّ أمة 'اقرأ' لا تقرأ.

لكن الذي ليس طبيعيا هو أن يستمر المثقفون في إذلال أمة 'اقرأ' بهاته المقولة، عوضا عن تبليغهم الحل الطبيعي.
فالتجربة الطبيعية هي التي ستوسع مجالات المعرفة بأصناف الفكر المتعددة لقرّاء المستقبل. والمطالعة مكملة للمعرفة العينية المباشرة. والرغبة في المطالعة تتولد، في ضوء ما فسرتُه أنفا، من الرغبة في تكميل المعرفة العينية المباشرة. أي أنّ شدّة الرغبة في المطالعة تُقاس بفعالية المعرفة العينية والعملية، وإلاّ فلا شيء سيُرغّب الشاب أو الباحث في المطالعة إن كانت تلك المعرفة ضعيفة أو منعدمة الفعالية. بكلام آخر، ليست لنا ثقافة عينية وعملية فعالة. وذلك مردّه ندرة استنادنا إلى فلسفة اللغة وكذلك إلى عدم إيمان مثقفينا بضرورة إرساء فكر ديني إنساني يكون علميا و عمليا وميدانيا وتجريبيا. فلا لَوم إذن على الناس بدعوى أنهم لا يقرؤون. بل اللوم على المثقف العربي المسلم لأنه ليس بمُقرِأ.

في الختام يمكن أن أُحوصل الحلّ بالقول إنّ الرغبة في القراءة لا تتولّد إلاّ حين تكون للقارئ المفتَرض معرفة ثابتة، بالطبيعة وبالحداثة، وعندما يكون هذا القارئ، من أجل ذلك، قد نمّى مهاراته المعرفية بمُقتضى ما أوحت إليه فلسفته في اللغة وتجربته في العبادة، لا حين يكون مغمورا بطوفان من أكداس من المعرفة. (4)

ومن ناحية أخرى، هل سيعِي المجتمع العربي الإسلامي أنّ القراءة لن تكلفَه كل الجهد والوقت والمال الذي يتحدث عنها أولئك الذين لم يندرجوا بعدُ في التفكير بواسطة آليات النهوض، بل مكثوا، على عكس ما هو مطلوب، قابعين في قواعدهم، حريصين على الالتصاق بآليات فكر التقدّم (الغربي) كأنهم ينحدرون من مجتمع (عربي إسلامي) متقدّم بعدُ، فيحكمون على هذا المجتمع الناهض بمعايير لا تنطبق عليه؟

محمد الحمّار

الهوامش:

(1) الأديب نبيل عودة يذكرنا مشكورا بتلكم الأرقام والإحصائيات في مقال "اضمحلال الثقافة من مجتمعنا العربي: اضمحلال للمجتمع المدني... "، موقع ميدل ايست أونلاين بتاريخ 24-3- 2010.

(2) دراسة نشرتُها تحت عناوين مختلفة، نذكر منها: محمد الحمّار،  "التعريب انفتاح على اللغات"، "الاجتهاد الثالث والإصلاح الديني"، "احترام اللغات الأجنبية طريق إلى تطور العربية".

(3) التقنية الثلاثية التي يرشحها الأمريكي 'ألفن توفلر' كشرط النجاح في القرن 21: " تعلّم- محو التعلّم – إعادة التعلّم"، عن مجلة "نيوزويك" بتاريخ  9-10-2006 ص59.

(4) على سبيل المثال، مقالة "مجتمع المعرفة أم مجتمع معرفة الله بالمعرفة؟"، منشور في عديد المواقع.

(5) حديث قدسي.

(6) حسب استشارة وطنية تمت في تونس في شهر أبريل/نيسان من سنة 2010.
http://www.tunipresse.com/article.php?id=29063

Publicité
Publicité
Commentaires
Publicité