هل ستنفع محاسبة قائد السبسي والقدامى؟
هل ستنفع محاسبة قائد السبسي والقدامى؟
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن دعوى قضائية مرفوعة ضد الوزير الأول الانتقالي الباجي قائد السبسي. وبالرغم من أنّ لكلّ حقه في تشكيل رؤيته لمسألة مقاضاة المخطئين في حق الشعب، إلا أنّ هنالك الرؤية العامة، وهي تتمثل في عوامل الماضي والحاضر والمستقبل مندمجة في رؤية تاريخية تكون الأكثر اتساقا مع الحاجيات الحقيقية للشعب ومع طموحات الشعب. فشعب تونس، الذي هو بصدد التعلم من تجربة الانتقال الثوري من الاستبداد إلى الديمقراطية، في أمسّ الحاجة إلى تعلم كيفية تناول مثل هذا الإدماج سواءً بخصوص الرؤية التاريخية أو بخصوص رؤى مختلفة وعديدة أخرى تطرح نفسها على الفرد والمجتمع.
وفي سياق التعلم التاريخي يمكن أن نستشهد بما قاله الأمريكي ألفن توفلر مؤلف كتاب "رجّة المستقبل و الموجة الثالثة" (عن مجلة "نيوزويك" بتاريخ 9-10-2006 ص 59) "إنّ الأمّي في القرن 21 سوف لن يكون ذاك الذي لا يحسن القراءة و الكتابة وإنما سيكون ذاك الذي لا يحسن التعلّم، محو ما تعلّم ثمّ إعادة التعلّم." لكن يحق التساؤل ما الذي سيتعلمه الشعب التونسي، والعربي، الذي عانى الويلات من شتى أصناف المجرمين، وما الذي سيمحوه من عقله التعليمي وما الذي سيعيد تعلمه لكي يكون في مستوى الرسالة الثورية، علما وأن هذه الرسالة عربية وعالمية أيضا.
إنّ ما يتوجب أن يتعلمه هذا الشعب هو حسن التصرف في ذاكرة الآثام المقترفة قديما في حق الشعب، وفي وآثار الجرائم المرتكبة ضده، وفي مخلفات العديد من الإهانات التي ذهب ضحيتها. وحسن التصرف لا يتطلب النسيان بقدر ما يتطلب الاستحضار الواعي والمنتج الإيجابي للسلوك على كافة الأصعدة. فما من شك في أنّ الذين بادروا برفع شكوى ضد قائد السبسي لم يفتروا على الشخص. ولكن في المقابل قد تؤدي حركتهم هذه إلى افتراء الشعب بأكمله على نفسه وذلك بتعطيله الذاتي لمسيرته التحررية. كيف ذلك؟
لو ينصاع الشعب الآن، في الفترة البَعدية للاستفاقة التاريخية الجماعية، لمثل تلك المقاضاة لأناس كانوا قد ساهموا بشكل أو بآخر في الإضرار بالشعب، إن بالاستبداد أم بالقمع أم بالقتل أو بأي لون من ألوان الظلم، سوف يحكم على نفسه بتضييع الجهد (الطاقة) والوقت والمال في تجميع وتوثيق ما يستلزمه الأمر من معلومات. ثم لو انصاع الشعب للمقاضاة التاريخية، لأهدر المزيد لأنّ عجلة البحث عن الآثمين القدامى لن تقف عند قائد السبسي ولا عند بورقيبة ولا عند عبد الله فرحات ولا عند غيرهم. بل ستدور العجلة بسرعة جهنمية حتى تطال فرنسا واستعمارها لتونس، وستطال كل من قتل نفسا بريئة بشكل جعل أية عائلة تونسية فقدت واحدا من أفرادها على وجه الظلم تنبري ضد الظالم، إن كان حيا أم ميتا، وسوف يُدمج الأموات مع الأحياء فوق حلبة سريالية لا طائل من ورائها.
في المقابل، نعَم لقراءة تاريخية جديدة لتونس الجديدة نضع من خلالها الإصبع على مكامن الأدواء ونحدد بفضلها المسؤوليات ونذكر عبرها أسماء كل من أسهم في إذلال الشعب. لكن هذا الصنف من الإنجاز الإيجابي يبقى من مشمولات البحث العلمي والتوثيق والإعلام والتربية، لا من مشمولات المحاسبات الجنائية والسلطة القضائية. فشعبنا ليس مطالبا بتعلم أساليب الثأر من الجناة ، أمواتا كانوا أم أحياء، بقدر ما هو مطالب باستقراء العبرة مما جرى حتى يكون مضطلعا بتاريخه حق الاضطلاع ويكون متحررا من العقد التي كانت تكبح جماحه وتكمم لسانه وتعيق فكره. من هذا المنظور يكون قد محا القبيح من ذاكرته، بما معناه أنّ ما كان قبيحا صار مُولدا للجميل من الأفكار البناءة. كما يكون قد تعلم كيفية الاستفادة من دروس الماضي بدليل أنه أصبح قادرا على تحويل المادة الرديئة إلى مادة جيّدة.
أخيرا وليس آخرا، بهذه الطريقة يكون الشعب قد أعاد تعلم العلم والدين معا في ذات الوقت، وذلك لأنه أضحى يربي نفسه على إرضاء ربه وإرضاء العباد أثناء إنجازه لبرامج، لا أثناء تعلقه المرَضي بالعلم أو بالدين (أو بالاثنين) بينما يعوزه المنهاج التاريخي القويم. علما وأن تلك البرامج ما كانت لتخطر بباله لو تعنت في الثأر لنفسه من جلاديه القدامى. فلنقرأ تاريخنا مليا حتى لا تكون الفرصة سانحة لتبرير تواجد جلادين جدد لا قدر الله.
محمد الحمّار